إغلاق عقل المسلم / الجزء الثاني

 

 

ويُمكن القول بأنَّ مذهب المُعتزلة شكَّلَ منعطفاً مُهِماً في تاريخ الفكر الإسلامي إذْ ساعدَ على بروز الكثير من التيارات ذات النزعة الإنسانية، ولولم يَقُم ألوُعّاظ والفقهاء المتحجِّرو العقول بالتأثير على عقول الناس من خلال تكريس إفهامهم بأنَّ الإسلامَ قائمٌ على منطِق القسر والجبر والتبعية ورفضِ منطِق التفكير العقلي، لكانت مساهمة المُعتزلة والتيارات الإنسانية الأخرى كبيرة وفعالة في استعادة الحضارة الإسلامية وتقدمها عن طريق عرض أفكارها ونشر طروحاتها ولكانت عاملاً في تغيير المُجتمع الإسلامي الى مجتمع أفضل كثيراً مِما هو عليه الآن وبشكلٍ كبير.

 

تصدَّي المشايُخُ والوُعّاظ السنةُ المتزمِّتون لأفكار وطروحات المُعتزلة التنويرية، وفي مقدمتهم الإمام أحمد بن حنبل مؤسس المذهب الحنبلي، كان أبرز مَن عارض نظرية خَلق القران وبسبب هذه المعارضة زُجَّ في السجن وأُهينَ، ولكنَّه لم يتراجع فنال تأييداً من قبل جماعة السنَّة في بغداد، وقد لُقِّبَ أتباعُ مذهبِه بالحنابل، وعُرفوا بالجنوح الى استخدام العنف ضِدَّ المختلفين معهم، وإنَّ المذهب الوهابي المُعاصِر هو امتداد للمذهب الحنبلي، لأنَّهم يحملون نفس الأفكار التخلُّفية البالية في تبنّيهم للعنف البغيض الذي يقود الى الأعمال الإرهابية.

 

ومن المؤسفِ جداً أن يلقى اولئك التقليديون المتزمِّتون الدعمَ والتأييد من الحكّام المسلمين في ذلك العصر. والأبرز والأشرس بينهم كان الخليفة المتوكِّل، حيث أظهر شِدَّة بأسِه وقسوتِه وتزمُّته اللاعقلاني التخلُّفي بمواجهة تيارالمُعتزلة بعُنفٍ كبير حيث قتل وعَذَّبَ الكثيرين منهم، فقضى على تلك الفرقة المنطقية العقلانية، وكانت حجته في هذا التصرُّف البربري بأنَّ المُعتزلة ضلوا عن طريق الحق الذي يفهمُه هو ومشايُخُه الأشعريون (أتباع أبو الحسن الأشعري الذي سنأتي اليه لاحقاً) .

 

إذاً إنّ قيام المتوكِّل الخليفة الأحمق ومشايخِه بالتصدّي العنيف ضِدَّ المعتزلة كان ضرباً مِن الجنون وردَّةً خاسرة وتخلُّفية في تاريخ الفكر العربي الإسلامي، أدَّت الى إغلاق عقل المُسلم، فعاد أسيراً للمنقول من السلف في التفسير الحرفي للنصوص الدينية بدون مُبالاةٍ بتعارضِه مع العقل، بل تمادوا جداً باعتماد ما تَمَّ نقلُه إليهم مِن أحاديث نُسبت الى نثيِّهم محمد رغم أنَّ الغالبية منها مشكوك بصحتِها برأي الكثير مِن فقهاء المسلِمين، ومن بينهم الإمام “أبو حنفية” مؤسِّس المذهب الحنفي، حيث لم يقبل منها إلاّ 17 حديثاً ورفض البقية.

 

ونتيجة تفاقم الصراع بين المعتزلة ومناوئيهم أهل الحديث <السنة> أدّى الى انشقاق أحد المعتزلة هو ” ابو الحسن الأشعري” على إثر خلافٍ جرى بينه وبين شيخِه “أبو هذيِّل العلاف” وبحسب ما رُوي عن الخليفة المأمون بأنَّ مَيلَه الى العقلانية واعتناقَه لها دفعه إليه آرسطو الذي ظهر له في المنام ونصحه بأنَّ العقل هو المصدر الأهم لمعرفة الحقيقة، كذلك رُوي عن الأشعري، بأنَّ تغيير موقفِه من المُعتزلة كان نزولاً عند رغبة النبي الذي ترآى له في المنام ثلاث مرّات، فسمع منه في المرتين الأولى والثانية عتاباً بتخليه عن أحاديثه، ولما انصاع الأشعري لأمر النبي، ترآى له للمرة الثالثة وأمره بالدفاع عن أحاديثِه ضمن الإلتزام بالعقلانية. ونتيجة لذلك اضطرَّ الأشعري بإقامة مذهبٍ وسط يجمع بين فكر المعتزلة والفكر السني مع نبذ مذهب المعتزلة. تُرى ما رأيكم أيها القراء الأعزاء بهذه الروايات الغريبة والعجيبة، أليست صادرة عن عقول محكوم عليها بالجهل والخرافات؟!!!

 

لقد ذكرنا بأنَّ المتوكِّل  اضطهد المعتزلة بقسوة، ولاذَ بالفرار مَن نجى منهم مُختفين عن قبضته في مناطق نائية، والكثرون منهم انصهروا في المذهب الشيعي. تعرَّضت مؤلفاتُهم للحرق، ولم تسلم منها إلا مقتبسات قليلة احتفظ بها المعادون لهم رغبة منهم في تفنيد آرائهم. وبذلك استطاعوا خنق صوت المعتزلة العقلي الإرادي الحر منذ زمن طويل، إذ كانت مواجهة السلطات الإسلامية المتزمِّتة لإسكاته عنيفة جداً، ولا تزال على هذا المنوال برفضها لقِيَم الحرية والتجدُّد وإسكات كُلِّ صوتٍ يُنادي بها.

 

لقد آن الأوان للعودة الى الأخذ بمعالم فكرية وطروحات منطقية تتصف بمفاهيم نيرة يُشكِّل العقلُ عمودها الرئيسي، لعلَّها تُساهِم ايجابياً في إثارة وتحريض العقل العربي والإسلامي للإنفتاح والتحرُّر مِن هيمنة عصور التخلُّف والإستبداد على واقعِنا الراهن، والتأكيد على سلطة العقل وليس سلطة النصل والنقل، فهي العامل الأساس في بناء نهضة عملية تقدمية والمعيار الحقيقي لتطوُّر وازدهار وتقدم أيَّة أُمةٍ من الأمَم.

 

كانت الحملة التي شُنَّت على المعتزلة بداية الإنحطاط الفكري والحضاري، سبَّبَ ضعفاً كبيراً للدولة العباسية، بل هيَّأ فرصة مؤاتية للغازي المغولي هولاكو ليُسقِطها عام 1258م سقطة أبدية. ولا زال تأثير ذلك الإنحطاط متسلطاً على العقل العربي والإسلامي، يُثمر ثماراً سامة يُعاني منها العالَم المتحضِّر.

 

إنَّ الإسلام السياسي يُشكِّل خطراً، ولكي يُحقِّق مستخدموه أغراضهم يعمدون الى سلوك وسائل عِدّة والتظاهر بأشكال شتّى منها: تبنّي اسلوب الإرهاب المتمثِّل < بالقاعدة وفروعها > والأسلوب السلمي تحت ذريعة الإعتدال المتمثِّل <بحزب الإخوان المسلمين> الخبير بإفراز تفرُّعات تحت أسماء وواجهات مُختلفة، مستغلاً ديمقراطية دول الغرب في توفير الحقوق الإنسانية بجميع أشكالها فيوظفونها بكُلِّ ما يتوفَّر لديهم من دهاءٍ وذكاء لتنفيذ مشروعهم الأوحد الهادف الى أسلمة العالَم وفرض حكم الشريعة وبخاصةٍ على  ابناء الغرب الغافلين عن غايتهم الدنيئة هذه.

 

الصراع الثقافي

أليس الدافع لهجرة العرب والمسلمين الى دول الغرب هو الفرار من ظلم الحكام في بلدانهم والتخلُّص من بؤس أوضاعهم الإقتصادية والإجتماعية، والذي هو نتاج ثقافتهم الموروثة التي يفرضها الدين والمذهب، فالثقافة العربية الإسلامية تُطالب المواطنين بالطاعة العمياء للحاكم مهما كان ظالماً ومستبِدّاً، ولذلك يعمد العرب والمُسلمون الى الهجرة الى الدول الغربية صاحبة الثقافة ذات القيَم الحضارية الإنسانية النبيلة كالديمقراطية والحرية وحكم القانون والمساواة. . .

 

والسؤال المُحيِّرهو: لماذا يسعى بعض المسلمين المهاجرين بعد استقرارهم في الدولة الغربية المُضيفة وقد وفَّرتْ لهم الحرية وكرامة العيش، الى محاربة الثقافة الغربية ومخالفة قوانينَ تلك الدولة والعمل على فرض ثقافتهم المتخلفة عليها، تلك الثقافة التي كانت سبباً لهجرتهم، أليست غايتهم أسلمة اوروبا وفرض خكم الشريعة عليها!

 

 أليس الغربيون مُغفَّلين بل أغبياء عندما  يتعرَّضون  لإعتداء الإسلاميين الذين قبلوهم في مجتمعاتهم ووفَّروا لهم الرعاية والكرامة، وعوضَ أن يُقابلوا ذلك بالعرفان والوفاء لحسن نواياهم وإذا بهم يُبيتون لهم الشرَّ بعد كسبهم خبرة في تسخير قِيَم حضارتِهم كالديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان وحرية العبادة وتغيير الدين والمُعتقد والإعتراف بتعددية الثقافات وغير ذلك من التسهيلات، فيستخدِمون هذه المزايا لحبك مُخططات تخريبية ضِدَّ أبناء البلد الذي آواهم وقدَّم لهم المعونة والحماية.

 

أسلمة الغرب

لا زال أصحاب الإسلام السياسي وبالتحديد ” جماعة الإخوان المُسلمين” بتفرعاتهم المتعددة الأسماء والواجهات، تسعى بمنتهى الجهد لتغيير الثقافة الغربية المتطورة وفرض الثقافة الإسلامية المتخلِّفة أي “حكم الشريعة” مستغلة مجموعة من العوامل المضادة للمجتمعات الغربية كما أشرنا إليها فيما سبق.

 

استخدام الإسلاميين الكذب

 

الكذبُ عامل يُساعد أصحاب الإسلام السياسي على غِشِّ وخَدع الغربيين ويُعرف بازدواجية الكلام، ولديهم خبرة مكتسبة في فهم عقلية الغربيين ومخاطبتهم بما يُسرُّهم وكسب رضاهم لتحقيق نواياهم السيِّئة، وذلك عن طريق ايصال أساتذة مُسلمين الى جامعات غربية عريقة لديهم قدرة كلامية بخدعَهم موهمين إياهم أنَّهم مع الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، والمساواة بين المرأة والرجل في كُلِّ شيء، وهذه كُلُّها تتغيَّر عندما يتحدثون مع شعوبهم في بلادهم.

 

دول الخليج تُغري الجامعات الغربية بالمال

 

ليس خافياً بأنَّ الجامعات الغربية تُعيقها دوماً مشاكل مالية لكثرة مشاريعِها العِلمية، فانتبهت الدول الخليجية النفطية الغنية باستغلال هذه المشاكل، وعرضت على الجامعات تبرعات بملايين الدولارات، طالبة منها عدم السماح بنقد الإسلام في الحرم الجامعي والمُخالف يتعرَّض  لفقدان الوظيفة. وبالإضافة الى ذلك أعطت الجامعات مجالاً للطلاب الإسلاميين بالتطاول على الآخرين بالكلام اللفظي الخشن وحتى الإعتداء البدني لترهيب المعارضين لهم.

 

التخويف

تفتقت أذهان الإسلاميين بشراء ضمائر مُحامين جشعين لإقامة دعاوى قضائية على الليبراليين الذين قد يقومون بنقد الإسلام، وجعلهم يتحمَّلون مصاريف الدفاع عن أنفسهم، حتى لا يجرأون ثانية على نقد الإسلام.

 

تحقير الثقافة الغربية

يقوم أصحاب الإسلام السياسي بتحقير الثقافة الغربية، وبنفس النظرة التحقيرية ينظرون الى غير المسلمين وحتى الى المُسلمين الذين لا يؤيدون نهجهم، وبخاصةٍ الذين لديهم توجه ليبرالي حيث تصل بهم الحالة الى إباحة تغييبهم جسدياً، إذا لم يُجاروهم بإسلامهم وتحقيرهم للثقافة الغربية.

 

مُعاداة الديمقراطية

يكره أصحاب الإسلام السياسي الديمقراطية، وفي حالة اضطرار قادتهم تبنيهم لها ولحقوق الإنسان، فيكون ذلك قبولاً مرحلياً لحاجتهم الى كسب ثقة الغرب، وما إن يتسلَّموا السلطة لا يلبثون أن يتنكَّروا لكُلِّ ما وعدوا به سابقاً.

 

الغاية تُبرِّر الواسطة

 

لا يستبعد الإسلاميون السياسيون  القيام بالعدوان لتحقيق نواياهم وأغراضهم، وليس بعيدً اختطافهم الثورة في تونس ومصر، حيث عرفوا كيف يفوزوا بالإنتخابات عن طريق الإغراء والخداع والرشوة. وما إن وضعوا أيديهم على السلطة حتى تصاعد الإعتداء على النساء السافرات، ومن ضمنه التحرش الجنسي، إرهاباً لهنَّ على ارتداء الحجاب وكذلك الزيّ التخلفي الإسلامي.

 

غفلة الغرب

لا تزال الشعوب الغربية ورجال ُحكوماتِها في غفلةٍ عن الحذر من الإسلام السياسي، ولا يُدركون حِيَل معتنقيه وأحابيلهم، كما لا ينتبهون الى استغلالهم لكُلِّ القوانين والوسائل والأنظمة والمُثُل الحضارية الغربية بما فيها الديمقراطية ومنظمات حقوق الإنسان وحرية التعبير والنشر… يُسخِّرونها لصالح منظماتهم الساعية الى نشر التطرف الإسلامي والإرهاب! حتى متى يستيقظون من غفوتهم ونرجو أن لا يفوت الأوان وحينها لا يُفيد الندم.

 

الباحث والمؤرخ

الدكتور كوركيس مردو

 

 

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *